((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ)) من المسلمين ((وَالَّذِينَ هَادُواْ)) أي صاروا يهوداً باليهودية ((وَالنَّصَارَى)) المؤمنين بعيسى (عليه السلام) ((وَالصَّابِئِينَ)) وفيهم غموض وخلاف، وربما قيل أنهم عبدة النجوم ((مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) حقيقةً، ((وَعَمِلَ صَالِحاً)) مما أمر به الله سبحانه ((فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)) لا في الدنيا ولا في الآخرة- كما تقدم- ((وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) فلا ييأس أحد من روح الله ما دام في الدنيا، وإنما قيدنا "من آمن" بـ"حقيقة" لئلا ينافي ما في صدر الآية "إن الذين آمنوا".
((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ)): العهد الشديد، وقد تقدم مكان أخذ العهد، ((وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)) وذلك أن موسى (عليه السلام) لما جاءهم بالتوراة لم يقبلوها، فقطع جبرائيل (عليه السلام) قطعة من جبل طور ورفعها فوق رؤوسهم مهدداً، أنهم إن لم يقبلوا التوراة قذفها على رؤوسهم، فقبلوا قبول التوراة مجبرين، وقلنا لكم ((خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ)) أي بجد ويقين وشدة لا تحسدوا عنه، ((وَاذْكُرُواْ)) أي احفظوا واعملوا بـ((مَا فِيهِ)) أي في "ما آتيناكم" وهو التوراة ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي تخافون، فإن العامل بأوامر الله يكون خائفاً متقياً.
((ثُمَّ تَوَلَّيْتُم))، أي أعرضتم أيها اليهود ((مِّن بَعْدِ ذَلِكَ)) الميثاق الأكيد، فلم تعملوا بما في التوراة، ولم تتمثلوا أوامرنا، ((فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)) حيث تفضل عليكم بالتوبة، ((وَرَحْمَتُهُ)) بأن رحمكم فلم يؤاخذكم بسيئات عملكم، ((لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ)) في الدنيا والآخرة، فأي <أي> من ينسلخ عنه الإيمان يكون من أخسر الناس.
((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ))، أي عرفتم أيها اليهود ((الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ))، أي جاوزوا حدود الله فيه، وذلك أنهم حُرّم عليهم اصطياد السمك في السبت، فكانت الأسماك تأتي وتتجمع في هذا اليوم لشعورها بأمنها في هذا اليوم، فكان اليهود يحتالون لأخذها بإيصال الماء إلى أحواضهم، فلما تأتي إليها الأسماك يوم السبت سدوا طريقها، ثم يصطادونها يوم الأحد، وكان هذا خرقا لحرمات الله، ((فَقُلْنَا لَهُمْ))، أي للمعتدين ((كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ))، أي مبعدين عن الخير دنيا وآخرة، لأنكم أيها اليهود الذين شاهدتم هذا المسخ بالنسبة إلى المعتدي فكيف تعملون خلاف أوامر الله سبحانه؟
((فَجَعَلْنَاهَا))، أي جعلنا المسخة التي مسخوا بها والعقوبة التي عوقبوا فيها ((نَكَالاً))، أي عبرة ((لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا))، أي من كان في زمانهم من سائر اليهود والأمم ((وَمَا خَلْفَهَا)) الذين <الذي> يأتي من بعدهم مما يسمع بأخبارهم، أو يكون معنى "نكالا" عقوبة، فالمعنى جعلنا المسخة عقوبة للمعاصي التي ارتكبوها مما كانت بين يدي المسخة، وهو "الاعتداء" وما خلف المسخة من سائر المعاصي التي كانوا يرتكبونها بعد اعتدائهم في السبت، ((وَ)) جعلناها ((مَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)) لئلا يرتكبوا خلاف أمر الله سبحانه.
((وَ)) اذكروا أيها اليهود قصة البقرة، وهي أنهم وجدوا قتيلاً لم يُعرف قاتله، فرجعوا إلى موسى (عليه السلام)، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة، ثم يضربوا القتيل بها ليحيى القتيل ويخبرهم بالقاتل، وكان هذا اختبارا لإيمانهم، حيث أن كون ضرب ميت بميت موجبا للحياة مما لا يصدقه ضعفاء الإيمان، ولهذا جعلوا يسألون أسئلة تافهة من موسى (عليه السلام) حول البقرة.
((إِذْ قَالَ مُوسَى)) (عليه السلام) ((لِقَوْمِهِ)) بني إسرائيل: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً)) لإحياء القتيل، ((قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً))، أي أتسخرنا وتتخذنا سخرية، فما الربط بين القتيل وبين ذبح البقرة، أو كيف تكون البقرة الميتة سبباً لإحياء القتيل؟ ((قَالَ)) موسى (عليه السلام) ((أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) الذين يستهزئون بالناس، فإن السخرية من شأن الجهال والسفهاء.
((قَالُواْ ادْعُ لَنَا))، أي اطلب من أجلنا ((رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ))، أي ما هي البقرة من حيث سنها وعمرها، ((قَالَ)) موسى (عليه السلام): ((إِنَّهُ)) تعالى ((يَقُولُ إِنَّهَا))، أي البقرة يلزم أن تكون ((بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ))، الفارض الكبيرة الهرمة والبكر الصغيرة، ((عَوَانٌ)) أي وسط العمر ((بَيْنَ ذَلِكَ))، أي المذكور بين الصغير والكبير ((فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ)) من ذبح هكذا بقرة.
((قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ))، أي اسأل من ربك لأجلنا ((يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا))، أي ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها، ((قَالَ)) موسى (عليه السلام): ((إِنَّهُ)) تعالى ((يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء)) اللون ((فَاقِعٌ لَّوْنُهَا))، أي حسنة الصفرة لا تضرب إلى السواد لشدتها، ولا إلى البياض لمقلتها، ((تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)) إليها، أي تعجب الناظرين، وتفرحهم بسبب حسن لونه
ولما بين سبحانه سن البقرة ولونها سألوا عن صفتها، ((قَالُواْ)) يا موسى ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ)) البقرة؟ أتكون من العوامل أو من السوائم التي لا تعمل؟ فـ((إِنَّ البَقَرَ)) الذي أمرتنا بذبحه ((تَشَابَهَ))، أي اشتبه ((عَلَيْنَا))، وإنه كيف ينبغي أن يكون؟ ((وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)) إلى صفة البقرة بتعريف الله سبحانه لنا كيف يجب أن يكون، وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنهم لما شددوا على أنفسهم، شدد الله عليهم، ولو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد."
((قَالَ)) موسى (عليه السلام): ((إِنَّهُ)) سبحانه ((يَقُولُ إِنَّهَا))، أي البقرة التي أمرتم بذبحها ((بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ)) يذلها العمل، ((تُثِيرُ الأَرْضَ))، أي تعمل وتكرب لإثارة الأرض، ((وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ)) الحرث الزرع، فلا تسقيه بالناعور، والدلاء، والمعنى أن لا تكون عاملة، ((مُسَلَّمَةٌ))، أي سالمة لا نقص فيها، فهي بريئة من العيوب ((لاَّ شِيَةَ)) من الوشي بمعنى اللون ((فِيهَا))، أي لا لون فيها يخالف لونها، وهذا ليس تأكيد لما سبق، إذ كونها صفراء لا تدل على عدم الوشي فيها، ((قَالُواْ)) لموسى (عليه السلام): ((الآنَ)) وبعد هذه التوضيحات لصفات البقرة ((جِئْتَ بِالْحَقِّ)) الواضـح، أو بما هو حق الكلام مقابل الإجمال الذي قاله (عليه السلام) سابقا بقوله "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، ((فَذَبَحُوهَا))، أي ذبح اليهود تلك البقرة المأمور بذبحها، ((وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ))، أي كاد أن لا يذبحوا تلك البقرة لغلاء ثمنها، فإنها انحصرت في بقرة واحدة، لم يعطها صاحبها إلا بثمن فاحش.